Sunday, January 6, 2013

الدستور المصري ولوائح الاتصالات الدولية

الدستور المصري ولوائح الاتصالات الدولية

على مدار أكثر من عام، كنت أتابع عن قرب عمليتين لا تربطهما أي علاقة من الناحية العملية، لكنهما ظلتا مرتبطتين في ذهني بأوجه شبه عديدة، مما شجعني على الكتابة في الموضوع لكني آثرت الانتظار حتى انتهاء العمليتين خصوصاً أن توقيت اتمام العمليتين كان متقارباً للغاية حيث تم إنجازهما خلال شهر ديسمبر ٢٠١٢.

كأي مواطن مصري تابعت عملية كتابة دستور مصر بعد ثورة ٢٥ يناير منذ التعديل الدستوري الأول في ٢٠١١ مروراً بالجمعية التأسيسية وما صاحب تشكيلها وعملها من جدل وحتى إعلان نتيجة الاستفتاء الشهر الماضي. وبحكم عملي في مجال الإنترنت تابعت عن قرب عملية مراجعة لوائح الاتصالات الدولية التي أقرتها الدول الأعضاء في الاتحاد الدولي للاتصالات عام ١٩٨٨، وجاء تحديث هذه اللوائح بعد أكثر من عقدين من الزمن شهد العالم خلالهما الطفرة الأكبر في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. ولوائح الاتصالات الدولية هي بمثابة معاهدة دولية تتضمن القواعد المنظمة للاتصالات الدولية بين الدول فيما يخص حركة مرور المكالمات الدولية، والمحاسبة المالية بين هيئات الاتصالات في الدول المختلفة، وغيرها من الأمور ذات الصلة. وقد شهدت مدينة دبي في الفترة من ٣ إلى ١٤ ديسمبر ٢٠١٢ مؤتمراً دولياً للتفاوض حول بنود المعاهدة الجديدة وإقرارها. كانت الإنترنت هي القضية المحورية المثيرة للجدل في لوائح الاتصالات الدولية، حيث انقسمت الدول ما بين مؤيد ومعارض لتضمين المعاهدة مواداً لها علاقة بالإنترنت من محتوى وتآمين وغيرها. وقدمت بعض الدول خلال فترة التحضير لمؤتمر دبي مقترحات من شأنها تمكين الدول من إحكام سيطرتها على الإنترنت بينما دعت الدول المتبنية لسياسات أكثر انفتاحاً وليبرالية في استخدام الإنترنت لاستبعاد قضايا الإنترنت تماماً من المعاهدة.  

ولقد أثار الخلاف بين الدول حول الأمور المتعلقة بالإنترنت في لوائح الاتصالات الدولية حالة من الاستقطاب كالتي نشأت بين القوى السياسية في مصر حول الدستور. وكان الإعلام حاضراً بقوة في الحالتين، ففي الوقت الذي كان فيه الدستور هو المادة الأساسية للإعلام المصري، لم ينقطع الحديث في الصحافة والمواقع الإلكترونية المتخصصة خاصة الأمريكية والأوروبية عن لوائح الاتصالات الدولية وسعي بعض الدول توسيع نطاق هذه اللوائح لتشمل الإنترنت. وكما شهدت مصر حملات إعلامية مدفوعة الأجر تدعو المواطنين للتصويت بـ "لا" على الدستور، نظمت شركات وتحالفات أمريكية حملات إلكترونية تحذر مستخدمي الإنترنت من سعي بعض الدول لفرض رقابة على الإنترنت من خلال معاهدة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة. الفرق بين الحالتين بالطبع أن الدستور في الحالة الأولى كان حديث الشارع المصري بينما معاهدة الاتصالات في الحالة الثانية كانت محط أنظار قطاع محدود من المهتمين والمتخصصين في أنحاء مختلفة من العالم. 

المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة هي منظمات حكومية يكون التمثيل فيها للدول الأعضاء ولكل دولة صوت واحد. وبالرغم من وجود تمثيل من قطاعات أخرى غير حكومية في بعض المنظمات الدولية، فإن ممثلي هذه القطاعات ليس لهم صوت وإنما يشاركون كمراقبين وبالتالي لا يؤثرون في عملية اتخاذ القرار. وعادة ما تكون اجتماعات المنظمات الدولية مقصورة فقط على الدول الأعضاء والمراقبين ولا يسمح للخبراء والمهتمين من غير الأعضاء بالحضور إلا من خلال مشاركتهم ضمن وفود الدول الأعضاء. وشهدت العملية التحضيرية لمؤتمر دبي عشرات الاجتماعات للمجموعات الإقليمية على مستوى العالم، وكانت جميعها مغلقة على الأعضاء ومن توجه لهم الدعوة للحضور كمراقبين. وكان لا يتم نشر أي من مخرجات هذه الاجتماعات أو أي من المقترحات والوثائق التي يتم مناقشتها إلا إذا تم تسريبها من قبل أحد الأعضاء. وبالرغم من قيام الاتحاد الدولي للاتصالات قبل مؤتمر دبي بفترة قصيرة بنشر وثيقة تتضمن جميع المقترحات المقدمة من قبل الدول والمجموعات الإقليمية بهدف الحصول على تعليقات، إلا أن ذلك لم يساعد كثيراً في تحسين مستوى الشفافية التي كانت واحدة من نقاط الضعف الأساسية في العملية. على الجانب الآخر، لم تكن درجة الشفافية المصاحبة لعملية كتابة مشروع الدستور المصري أفضل كثيراً، حيث كانت الجمعية التأسيسية للدستور تعقد اجتماعاتها في غرف مغلقة، وكان يتم التشكيك في كل ما يتم نشره في الإعلام من مقترحات أو مسودات للدستور، وشابت عملية التعليقات العامة العديد من أوجه القصور، وغاب الحوار المجتمعي، ولم يؤخذ برأي الخبراء وفقهاء الدستور في كثير من الأمور. هذا بالإضافة للعوار الذي أصاب تشكيل الجمعية التأسيسية والذي أدى إلى استئثار فصيل سياسي وحيد بالعملية وانسحاب العديد من أعضائها.    

كانت جولة المفاوضات شاقة في دبي، وحاول كل فريق في البداية أن يخرج بأكبر مكاسب ممكنة، وفي الأيام الأخيرة من المؤتمر كان هدف كل فريق أن يخرج بأقل خسائر ممكنة. فبينما كانت الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا واليابان والدول الأوربية تحاول جاهدة أن تخرج بمعاهدة للاتصالات الدولية لا تتعرض لقضايا الإنترنت من قريب أو من بعيد، كانت الدول النامية بقيادة الصين وروسيا وإيران ودول المجموعة العربية والأفريقية وأمريكا الجنوبية (كان هناك استثناءات في المجموعات الثلاث) تسعى إلى تضمين الاتفاقية بنوداً صريحة تمنح الدول مظلة دولية لإحكام سيطرتها على حركة مرور البيانات عبر حدودها. وقرب نهاية فترة المؤتمر كان واضحاً للحضور عدم إحراز تقدم حقيقي في المفاوضات، فسعى الأمين العام للاتحاد الدولى للاتصالات للتفاوض مع ممثلي بعض الدول والتوافق حول صفقة ما تحقق لكل طرف جزء مما يريد. وفي النهاية فشل التوافق حول هذه الصفقة وتم اللجوء للتصويت وانتهى الأمر بتوقيع ٨٩ دولة على الاتفاقية وامتناع ٥٥ دولة عن التوقيع (بعضها رفض التوقيع والبعض الآخر طلب مهلة للتشاور مع العاصمة). وكما فشل المؤتمر في التوافق حول اللوائح الدولية للاتصالات، كانت الجمعية التأسيسية قد فشلت بالفعل في التوافق حول مشروع الدستور المصري. فبعد استقالة العديد من أعضاء الجمعية التأسيسية من ممثلي التيارات السياسية المدنية، وقبيل انطلاق مؤتمر دبي بأيام قليلة كانت الجمعية التأسيسية، أو ما تبقى منها، تمضي قدماً للانتهاء من مشروع الدستور، وأمضي أعضاؤها ليلة كاملة للتصويت على مواد الدستور مادة مادة، وتم تقديمه لرئيس الجمهورية وطرحه للاستفتاء في منتصف ديسمبر وسط حالة من السخط والرفض من معظم القوى السياسية غير المنتمية لجماعات الإسلام السياسي. وكانت النتيجة النهائية للاستفتاء على الدستور المصري مقاربة إلى حد كبير للنتيجة التي انتهى إليها مؤتمر دبي حيث كانت نسبة التصويت بـ "نعم" ٦٣،٨٪ مقابل ٣٦،٢٪ نسبة التصويت بـ "لا"

وتبقى ملاحظة أخيرة وهي أنه بغض النظر عن درجة قبولنا لكلا الوثيقتين - اللوائح الدولية للاتصالات والدستور المصري - فإن نصوص هذه الوثائق عادة ما تستخدم لغة فضفاضة تقبل التفسير على أكثر من نحو، وعليه تكون العبرة في كيفية التطبيق العملي لهذه النصوص من خلال القوانين والتشريعات والعمليات المترتبة عليها. وأنا شخصياً أستطيع أن أزعم أن لدى تصور لما يمكن أن يترتب على لوائح الاتصالات الدولية ومدى تأثيرها على سياسات الإنترنت الدولية، وهو موضوع يحتاج تدوينة منفصلة، لكني لست على نفس الدرجة من الوضوح بالنسبة للدستور المصري من حيث عمره الزمني ومدى تأثيره بالسلب أو الإيجاب على مستقبل هذا الوطن. 


No comments:

Post a Comment