خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي نجح الأخير عام ١٩٥٧ في إطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء الخارجي. القمر الصناعي والمعروف باسم سبوتنيك لم يحقق نجاحاً ملموساً من الناحية العلمية، لكنه بالتأكيد أضاف لرصيد الإتحاد السوفيتي في سباق الحرب الباردة. ولم يكن إطلاق سبوتنيك بمثابة إشارة لبدء عصر الفضاء فحسب، بل كان درساً قاسياً بالنسبة للأمريكيين جعلهم ينظرون بجدية في مواضع القصور الموجودة في نظامهم التعليمي والعمل على تصحيحها، وكذلك التفكير بشكل جدي وعملي في كيفية الاستثمار في مجال البحث العلمي وتأهيل كوادر جديدة من الباحثين. وبدأ العمل في أكثر من اتجاه وأكثر من مجال وبدأت بعض النتائج تظهر سريعاً حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في غضون عام واحد عن إنشاء وكالتين علميتين تابعتين للحكومة لدعم وتطوير الأبحاث في مجالات علوم الفضاء والتسليح والحاسب الآلي، وهما وكالة أبحاث الفضاء والمعروفة باسم "ناسا"، ووكالة مشاريع البحوث المتقدمة في وزارة الدفاع والمعروفة باسم "أربا". وكانت واحدة من المشكلات التي شرعت "أربا" بالنظر فيها هي كيفية تمكين أجهزة الدولة من الاتصال فيما بينها في حالة تدمير شبكة الهواتف الأرضية نتيجة تعرض البلاد لهجوم بالصواريخ. ونتج عن هذه الأبحاث شبكة للحاسبات عرفت باسم "أربانت" يرى البعض أنها النواة الأولى لشبكة الإنترنت التي عرفها العالم بعد ذلك بثلاثة عقود.
لم يجل بخاطر الباحثين في "أربا" أن ما يقومون به من أبحاث في أحد مجالات تكنولوجيا الاتصالات والمعروف باسم "باكت سويتشينج" سيقودهم لإحداث ثورة في عالم الاتصالات، ولم يتصور أحد العاملين في مشروع "أربانت" أنهم يؤسسون لشبكة اتصال عالمية ستصبح يوماً ما بنداً للتفاوض بين الدول ومجالاً للنزاع بل وساحة للحرب إذا اقتضى الأمر. جدير بالذكر أن مرحلة بناء ما سمي فيما بعد بالإنترنت قد مرت بمراحل مختلفة كانت السمة المشتركة فيها هي دور المجتمع التقني من المهندسين والباحثين في علوم الكمبيوتر في تطوير المعايير الهندسية والتطبيقات والبرامج المختلفة في ظل مساحة واسعة من الحرية بعيداً عن سلطة السياسة والمال. والسؤال هو: ما الذي حل بالإنترنت بنداً دائماً على أجندة اجتماعات الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية الحكومية؟ الإجابة من وجهة نظري تتلخص في إدراك الدول لأمرين أساسيين: الأمر الأول هو ما تمثله – أو ما يمكن أن تمثله – الإنترنت من قوة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية؛ والأمر الثاني هو حالة عدم التوازن السياسي التي خلقتها الإنترنت فيما يخص سلطة الحكومات على هذه الشبكة.
أما الأمر الأول، فقد كان لظهور تكنولوجيا الويب وما تبعها من تطبيقات محدودة في بداية التسعينيات ما استرعى انتباه البعض أن العالم على مشارف حقبة جديدة ستلعب فيها هذه التكنولوجيا الناشئة دوراً محورياً في تطوير وتغيير العديد من المفاهيم والنظريات التقليدية في مجالات عدة كالاقتصاد والأعمال والتعليم والخدمات وسيتسع تأثيرها ليشمل جوانب أخرى في المستقبل. وبدأت ملامح هذه الحقبة الجديدة تتشكل بظهور العديد من الشركات الصغيرة – في ذلك الوقت – والتي بدأت بتقديم خدمات وبيع منتجات من خلال مواقعها الإلكترونية. بعض هذه الشركات فشل واختفى بعد سنوات قليلة والبعض الآخر نجح وتقدم إلى مصاف الشركات العملاقة. وما شركات مثل أمازون وياهو وجوجل إلا أمثلة قليلة لذلك النوع الأخير. ومع مرور الوقت اتسعت الإنترنت ونمت التجارة الإلكترونية ونما معها حجم المعلومات المتدفقة وكذلك حجم الإعلانات التي باتت تشكل مصدراً أساسياً من مصادر دخل الشركات العاملة في مجال الإنترنت. ومع انتشار خدمات الإنترنت، تنبهت الحكومات إلى هذا الوسيط الجديد الذي يمكن من خلاله تقديم العديد من الخدمات للمواطنين بطريقة أكثر فاعلية وكفاءة، وبدأنا نسمع عن خدمات الحكومة الإلكترونية قرب نهاية العقد الأخير من الألفية السابقة. تزامن ذلك مع استثمارات كبيرة قامت بها الدول في بنيتها التحتية للاتصالات سواء بشكل مباشر أو من خلال شراكة مع القطاع الخاص. لكن لم تكن الخدمات الإلكترونية والاستثمار في البنية التحتية هو غاية اهتمام الدول في ذلك الوقت. كانت ثمة أسئلة تطرح نفسها بشأن القواعد والقوانين المنظمة لانتقال المعلومات والبيانات والسلع والخدمات عبر الحدود من خلال شبكة لا تعترف بالحدود الجغرافية. هذه أمور تتعلق بسيادة الدول لكن مع اختلاف بسيط أن فضاء الإنترنت يحتاج إلى قواعد جديدة لتمكين الدول من ممارسة سيادتها على حدودها الافتراضية بشكل مماثل أو على الأقل مشابه لسيادتها علي أراضيها وسماواتها ومياهها الإقليمية والتي تتم وفقاً للقوانين والمعاهدات الدولية. وبدا واضحاً منذ ذلك الحين أن الإنترنت ستشكل تحدياً لسيادتها وأن عليها التعامل مع هذا الأمر بكل جدية ومن خلال آليات وقنوات مختلفة.
الأمر الثاني والمتعلق بسلطة الحكومات على شبكة الإنترنت فقد لاحت في الأفق بدايات النقاش حول هذه القضية والتي عرفت لاحقاً باسم "حوكمة الإنترنت" في الفترة بين عام ١٩٩٦ و ١٩٩٨. وكان المكون الرئيسي لقضية الحوكمة آنذاك هو موضوع إدارة أسماء وأرقام الإنترنت. وكما هو معروف فإن إدارة أسماء وأرقام الإنترنت كانت تتم تحت إشراف الحكومة الأمريكية من خلال عقود مع أشخاص وجهات مختلفة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام ١٩٩٨ تم إنشاء هيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة (آيكان) للقيام بهذا الدور. لكن لكون آيكان هيئة خاصة غير ربحية تخضع لقوانين ولاية كاليفورنيا الأمريكية فقد أثيرت قضية الحوكمة من منظور سيادة الدول على الإنترنت، والدور الذي تضطلع به الولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بدور باقي الدول في هذا السياق، وهو الأمر الذي يعبر عنه أحياناً بحالة عدم التوازن السياسي التي خلقتها الإنترنت. وشهدت القمة العالمية لمجتمع المعلومات والتي عقدت على مرحلتين (جنيف ٢٠٠١-٢٠٠٣ و تونس ٢٠٠٣-٢٠٠٥) ظهور قضايا الإنترنت لأول مرة بشكل رسمي على مائدة المفاوضات الدولية. ولاتزال هذه القضايا مطروحة على الأجندة السياسية الدولية حتى يومنا هذا.
وبعد أكثر من عشر سنوات من الجدل حول الجوانب السياسية والسيادية للإنترنت، كيف يبدو المشهد اليوم؟ ماذا فعلت الدول لتعزيز سيادتها على الإنترنت؟ هل حالة عدم التوازن السياسي التي خلقتها الإنترنت مازالت مستمرة؟ هل هناك أي تغيير في المفاهيم الخاصة بالحوكمة؟ هل هناك أي تطور في الأراء والمواقف التي يتبناها أصحاب المصلحة المختلفين حول هذه القضايا؟ هل لمثل هذه القضايا أي أثر إيجابي أو سلبي علي الإنترنت التي يستخدمها اليوم قرابة ٢٫٥ مليار مستخدم؟ سأحاول في الجزء المتبقي من هذا المقال عرض بعض المشاهد والأحداث للإجابة على هذه التساؤلات.
تمارس كثير من الدول سيادتها على الإنترنت باعتبار أن ما يجري على شبكة الإنترنت داخل الحدود الجغرافية للدولة يقع في نطاق سيادتها وبالتالي يدخل في أطرها القانونية والتشريعية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة ومن ضمنها: سن قوانين لتنظيم عمل شركات الإنترنت سواء العالمية أو المحلية إذا أرادت هذه الشركات أن تقدم خدمات داخل الدولة؛ حجب المواقع التي ترى جهة ما في الدولة أنها توفر خدمات أو محتوى بالمخالفة لقوانين بعينها، أو بالمخالفة للتقاليد والقيم الأخلاقية والدينية، أو بالمخالفة لسياسة الدولة وأمنها وسلامتها؛ مراقبة مستخدمي الإنترنت والتضييق على حرية الرأي والتعبير وفرض قيود على استخدام بعض الخدمات كشبكات التواصل الاجتماعي والتدوين. وقد ذهبت بعض الدول إلى حد قطع خدمات الإنترنت نهائياً كما حدث في مصر خلال الأيام الأولى من ثورة ٢٥ يناير.
التحدي الأكبر بالنسبة للدول هو قدرتها على التصدي لما يمكن أن تتعرض له من هجمات إلكترونية، وعلى بناء قوى ردع دفاعية وهجومية تستطيع استخدامها إذا لزم الأمر. وقد شهد العالم في السنوات القليلة الماضية العديد من هذه النوعية من الهجمات التي وضعت دولاً خارج نطاق خدمة الإنترنت لعدة أيام، وعرضت مواقع ومنشآت حيوية لدول أخرى للتجسس والتخريب. والجدير بالذكر أنه لا توجد حتى يومنا هذا اتفاقية أو معاهدة دولية لتأمين الفضاء الإلكتروني. وباستثناء اتفاقية مجلس أوروبا للجريمة الإلكترونية والتي وقع عليها أكثر من أربعين دولة، لم تتمكن دول العالم من التوافق حول اتفاقية متعددة الأطراف بشأن تأمين الفضاء الإلكتروني. وبينما تسعى مجموعة من دول المعسكر الشرقي بقيادة الصين وروسيا ومعها دول العالم النامي للوصول إلى صيغة دولية مقبولة لمثل هذه الاتفاقية تحت مظلة الأمم المتحدة، تتخوف الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من أن مثل هذه الاتفاقية قد تؤدي إلى إحكام الدول سيطرتها على الإنترنت والحد من التدفق الحر للمعلومات على هذه الشبكة التي تمثل الكثير بالنسبة لدول الاقتصاد الحر والسوق الدولية المفتوحة. وستظل قضية تأمين الفضاء الإلكتروني هي الشغل الشاغل لكثير من الدول لفترة طويلة قادمة، ولا عجب في ذلك إذ تشير كثير من التوقعات إلى أن حروب المستقبل القريب ستكون إلكترونية.
أيضاً في العشر سنوات الماضية، لم تتغير المواقف كثيراً في قضايا حوكمة الإنترنت. وبالرغم من أن القمة العالمية لمجتمع المعلومات وتحديداً أجندة تونس قد أسست لمجموعة من المفاهيم الجيدة للحوكمة بل وأنشأت منتدى حوكمة الإنترنت كمنصة مفتوحة للجميع للمشاركة والحوار في قضايا الحوكمة، إلا أن المواقف حول القضايا السياسية وبالأخص قضية إدارة أسماء وأرقام الإنترنت، لم تتغير كثيراً.وقد أرست القمة العالمية لمجتمع المعلومات لمبدأ مهم وهو مشاركة جميع أصحاب المصلحة من الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأكاديميين والمجتمع التقني في عمليات تطوير السياسات العامة للإنترنت. وعلى مدار سبع سنوات هي عمر منتدى حوكمة الإنترنت حاولت أطراف عديدة من المؤسسات والحكومات والخبراء تعزيز نموذج تعدد أصحاب المصلحة، وقطعت بعض هذه الأطراف شوطاً معقولاً لتحسين أداء مؤسساتها وتطوير عملياتها لدعم هذا النموذج وتقديمه على أنه النموذج الأفضل للتعامل مع قضايا الحوكمة، إلا أن تأثير ذلك على المواقف السياسية التي تتبناها الدول يكاد يكون معدوماً.
ومما لا شك فيه أن قضايا الحوكمة وما يترتب عليها من سياسات وقواعد وقوانين لها بالغ الأثر على الإنترنت وعلى مستخدمي الإنترنت سواء بالإيجاب أو بالسلب. وعادة ما تكون احتياجات وأولويات كل طرف أو كل صاحب مصلحة مختلفة عن الطرف الآخر. فبينما تسعى شركات الإنترنت للإبقاء على هذه الشبكة كمجال مفتوح لنقل المعلومات وتتبنى السياسات التي من شأنها فتح مزيد من الأسواق لها وزيادة عائداتها، فإن ما يهم المستخدم النهائي ومن يمثله من جمعيات المجتمع المدني هو ألا تنتهك خصوصيته على الإنترنت ولا تقيد حريته في الوصول لمعلومة، أو في استخدام خدمة، أو في التعبير عن رأيه. في المقابل نجد أن ما يهم جماعة التقنيين الذين يطورون المعايير الفنية اللازمة لتشغييل الإنترنت ويعملون على إدارة البنية التحتية للشبكة، هو استمرار عمل الشبكة بكفاءة واستقرار عاليين وتفادي أي سياسات أو قرارات سياسية ئؤثر سلباً على التشغيل الفني للشبكة. وتظل القضايا السياسية والسيادية هي محور اهتمام الدول ومن يمثلها من حكومات. ونتيجة لهذا التباين في الأولويات بين الأطراف المختلفة، يرى البعض أن قضايا السياسات العامة للإنترنت تحتاج لمشاركة جميع أصحاب المصلحة حتى يتمكن كل طرف من عرض وجهة نظره ويتوافق الجميع حول سياسات تحقق التوازن المطلوب بين مصالح جميع الأطراف، وقد يسري ذلك على ما يتم إقراره من سياسات على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
لكن واقع الأمر ليس على هذه الدرجة من المثالية، فنموذج تعدد أصحاب المصلحة يواجه تحديات كبيرة على أرض الواقع. هذه التحديات تفرضها عوامل مختلفة بعضها لها علاقة بكيفية تطبيق النموذج وما إذا كان بالفعل يمكن الجميع من المشاركة على قدم المساواة، وبعضها لها علاقة بطبيعة دور الحكومات في قضايا السياسات العامة وما إذا كان هذا النموذج يمثل تهديداً لهذا الدور. وبالتالي تشير جميع الشواهد إلى استمرار الجدل السياسي حول قضايا الإنترنت لنفس الأسباب التي جاءت أساساً بهذه القضايا إلى اجتماعات الدول والمنظمات الدولية الحكومية والتي لخصناها في بداية هذا المقال في أمرين إثنين هما: ما تمثله الإنترنت من قوة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية؛ وحالة عدم التوازن السياسي التي فرضتها الإنترنت.
يبقى في النهاية أن نشير إلى أن هذا العام سيشهد واحداً من الاجتماعات الدولية المهمة والذي سيتم فيه مراجعة لوائح الاتصالات الدولية من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الدولي للاتصالات. هذه اللوائح هي بمثابة اتفاقية دولية أقرتها الدول الأعضاء بالاتحاد عام ١٩٨٨ لوضع القواعد التنظيمية بشأن الاتصالات الدولية بين الدول. هذه القواعد تشمل أموراً مثل تدفق وتوجيه حركة مرور المكالمات الدولية والمحاسبة بين الدول، وكذلك كفاءة الخدمات الدولية وتوفر معايير الصحة والسلامة، إلخ. سيتم مراجعة هذه اللوائح للمرة الأولى هذا العام في المؤتمر العالمي للاتصالات الدولية الذي ستستضيفه دبي في شهر ديسمبر من هذا العام. وتأتي أهمية هذا الاجتماع لكونها المرة الأولى التي سيتم فيها مراجعة هذه اللوائح بعد أكثر من عقدين من الزمن، شهد العالم خلالهما التطور الأكبر والأسرع في تاريخ الاتصالات السلكية واللاسلكية، وشهد أيضاً نشأة ونمو شبكة الإنترنت. وبالرغم من تأكيد السكرتير العام للاتحاد الدولي للاتصالات في أكثر من مناسبة على أن هذه اللوائح تخص فقط القواعد التنظيمية للاتصالات الدولية ولا شأن لها بقضايا حوكمة الإنترنت، إلا أن كثير من المقترحات المقدمة من قبل الدول تتعرض لقضايا أسماء وأرقام الإنترنت وتأمين الفضاء الإلكتروني والخصوصية وسلطة الدول في مراقبة وحجب المعلومات وغيرها من الأمور ذات الصلة بالإنترنت. ويبدو المشهد لكثير من المتابعين أن اجتماع دبي سيكون بمثابة فرصة أخرى لبعض الدول للتفاوض حول أمور السيادة على الإنترنت.
تلك قراءة سريعة لملف مهم حاولت من خلالها أن أسلط الضوء على بعض الجوانب المرتبطة بعلاقة الدولة بالإنترنت وهي علاقة تبدو أزلية حيث بدأت مع نشأة شبكة "أربانت" في ستينيات القرن الماضي، واستمرت إلى يومنا هذا، وإن تغيرت الظروف السياسية المحيطة وتبدلت الشبكة نفسها وتعددت الأطراف الفاعلة والمؤثرة فيها.